التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الملاك والشيطان

في بادئ كل ذي بِدء انبثقت الملاك غريبة كزهرة تزهر في عتمة الليل بكل شاعريةٍ وجمال، في أرضٍ كانت في ظلامها كالنملة في بطن الليل على الصخرة السوداء، ثم كانت ومعها نورها كالشمس تلقي بحقيقتها على أرض الظلام، فانفتن الشيطان الذي كان وما كان في جسده إلا سراديب السواد والظلام، من حقيقة هذا القلب النهَّام، الذي على كل ملذة آثمة همَّام، وكان على جبلٍ من صخورٍ حِمام تخرج منها أنهار اللظى تورد موارد الهلاك وتضيء بضوئها سماء عالم الأنام. فانطفئ الضوء، وجفت أنهار السقام، مخبرةً الشيطان بزهرة الملذات والمبتغات، الذي كان ينتظرها بكل حسرة ألف ألفٍ من الأعوام، فارتصد لها كل مرصدٍ سبعون ألف عام، وهو يرتشف لُعابه الذي كان يحرق الأرض لمَّا يسقط عليه وكأنه لعاب السلسبان، والسلسبان ضربٌ من ضروب أفاعي شياطين الظلام ، سوداء كأنها الليلة الليلاء، ببعض الحُمرة كأن النار تسعر على جلدها، لها ثلاثة أنياب: ناب السم، وناب الشيطنة، وناب السقام. بعد السبعين من الأزمان، وحروق الأرض من اللُعاب، نهدت الملاك وكانت كاللؤلؤ الحسان، على ثغرها يسيل ريق النحل، وعلى مراسيم البدن يرتسم بكل البرهان، إبداع صنع رب الجنان، فقال الشيطان:

 

- الأن..الأن، بعد عشرون دهرٍ من الزمان عادت الملاك! فهل إلى سبيلٍ لحاجتي من وصال؟

 

            فطار الشيطان من غصن إلى غصن ..من غصن إلى غصن، حتى وقع ما كان في حسبان الشيطان! رأته الملاك، لم تخف، لم تصرخ، ولم تلفت الى سبيلٍ للأدبار، فقد كانت قد سأمت منذ ألف وأربع مئة عام اللعب مع الحيوان، وها هي ترى ما يثير فيها فضول الكلام، فقالت:

 

-           يا أيها الشيطان! يا أيها الشيطان!

 

            فذاب وقد سقط، وكاد يذوب كالملح في الماء؛ من حسن صوتها الذي راح يصدح في كل مكان: كيف عرفت اسمي؟

قال الشيطان

 

قالت: وهل شيطنة نارك لا تدل إلا على غضبٍ قد شاط؟

 

قال: كيف عرفتي؟

 

قالت: علمني رب كل محركٍ لِبنان.

 

قال: وهل علمك ما يبحث عنه الشيطان؟

 

قالت: علمني وقد نسيتها عندما رأيت عبقرياً حسان!

 

قال: وهل في أهل هذا الزمان من عبقريٍ حسان؟

 

قالت: بلى! رأيته هناك عند النهر الفرات.

 

            قال الشيطان في نفسه: "أن العبقري الحسان هي صورتها على الماء." ففكر الشيطان ، وبقى ألف عام يضطجع على ساق شجرة الصفصاف، على نهر يجري من الماء، إذ أنه لا يستطيع دخول جنة الوردان؛ فأنه سيهلك لا محال، والتي هي بالنسبة للملاك حديقةٌ صغيرةٌ من الزمرد والمرجان، من داس أرضها وكان غير ملاك، ظن أنه لم يمسس يوماً من حرٍ أو من سقام. وجدها الشيطان! إلى سحبها خارج الجنان من سبيلٍ لرشف ريقها الذي كان كالريحان، فقال:

 

- تعالي معي إلى هناك.

 

قالت: أين هناك؟

 

قال: في الغاب، حيث هناك اللؤلؤ المكنون والزمرد والريحان، وعبق الملذات منثورة في كل الأرجاء!

 

قالت الملاك التي قد نهدت: فإلى هناك إذاً الترحال.

 

            سحبها الشيطان الذي بها قد هام، وفي كل دربٍ كان بها يسير حتى يبتعد عن حديقة الخلد والجنان، حيث من يدخلها يصعد إلى السماء حيث لا يرهق فيها ولا ينام، كي يضعف نورها الفتَّان حتى يصل الى أديمها الذي هو أجمل من الجمال، وبعد خمس مئة عام من الترحال، وتصريف الملاك عن ابتعادها عن جنة الجنان بالقصص والنِدام، وصل إلى ظلمة الغاب، حيث كان             هناك كل ملاكٍ قد التهمه الشيطان، فتوقف الكيلبان وهو الشيطان ملك الجبال والنار، وملك ذلك الزمان وكل زمان فيه كان، فقال :

 

-           هناك حيث الظلمة وبعدها العبقري الحسان، ففي الظلمة نورٌ لا يدركه كل قلبٍ بالملذات همَّام، فذهبت الملاك وبعد الظلمة رأت بركةً أنارة كل مكان، فاقتربت وكانت كلمَّا اقتربت قل النور وتلاشى السراب، حتى عندما وصلت رأت أن نور الماء قد اختفى وكأنه كان يا ما كان، فعندها أدركت الملاك التي قد نهدت بعد سبعين ألف عام، بعدما فات ما فات، أن الشيطان قد خدعها بالمَكر والتيهان، ثم أدركت أن نورها قد فان، وأن ثوبها الذي بالبياض توشح كان بالتراب قد توسخ، فقال صوتٌ ذكرها بقديم الزمان وكان الصوت صوت الشيطان فقال:

 

-           الأن أدرك كل مبتغى وكل شهوةٍ تمناها أهل الزمان!

 

قالت: وكيف تقتل من كان لأهل هذا الزمان حباً وسلام؟

 

قال: وكيف ترضين لمن أصبحت فيهم في كل حرفِ ومقال أن يدركوا هذا النعيم الفنَّان؟ لأولك الذين يصيبون بعض رغد العيش ترضين، وأنا شيطانٌ من الجان أقضي دهورً كعمر الأرض بالحسرة والندام، بالرفض تقبلين؟

 

قالت: وماذا عن خبر حديقة الخلد واللؤلؤ والمرجان؟

 

قال: هذا كان في سالف الأزمان عندما لم تكوني تملكين من الشهوة حباً ووئام، وسيورثها رب كل ذرةٍ وعِظام، لأخرى استدرجها وأتربص لها في كل مكان.

 

قالت: وهل سيبقى الشر محيطاً في كل مكان؟

 

قال: لا، ولكن سيطول به الزمان حتى يحين وعد رب الزمان عليَّ بالهلاك.

 

قالت: آهٍ على جنة الجنان، وآهٍ على مأساة أهل هذا الزمان.

 

قال: الآن قد عرفتي أنها جنت الجنان؟ صحيحٌ أن من فُطر في هذا المكان على النعيم والرخاء، كان طبعاً بهِ جُحد النعمة وعليها كان طاغياً جبار ، فالآن اقضي مأربي منك وكأنني، لم أفعلها قط في زمنٍ من الأزمان.

 

            فأخذ منها مأربهُ والتهمها وما أبقى منها غير قطرة من الدماء، فألقى بها على بركة السراب وانطلق بقوة الأرض والسماء، هارباً من نورها حتى لا يحرق ويباد، وعاد إلى جبلهِ الذي كان مُلك أبيه الجبار، الذي كان قد فنى قبل ألف ألف عام، ثم عاد وكان مثلما كان، وإلى  هنا خاتمة رحلة هذه المأساة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قارعة الطريق

- احذر الجمال يا قطعةً من أحشائي! -     -  ولكن أي شر يرام من الجمال؟! ألا ترى أن النفس تواقةٌ إليه دائمًا؟ إن التعفف عن الجمال قتّال يا أبي! إليك عنه وأنا ناصحك الحبيب.       - ولكنك قد أعمي بصرك، أواهٍ عليك يا نصيبي من الدنيا، ألا تبصر الغسق ما أجمله؟ ولكن ما وراء الغسق؟ إن وراءه ظلمة الليل التي تصبغ أرواحنا بظلامها، هي الظلمة التي تلقي بأرواحنا العارية إلى قارعة الطريق. -      -  أني أعبدك يا أبي، إنك تعلم أن عباداتي لك لا تنتهي يا أنفس ما أملك، ولكنك قد غلوت بنسكك حتى طُمست عليك الملامح كلها، أفلا تصبر حتى تنظر الشفق من جديد؟ ألا تنظر إلى النور العائد مرةً أخرى؟ إنه يجن أجسادنا العارية يا أبتي عن الشرور! إنه يحفظها منها!  - ولكن أيا مهجتي، أيا كنزي العظيم، من ذا الذي ينجينا من ظلام الليل؟ من ذا الذي يرافقنا ونحن عراةٌ على قارعة الطريق؟ إنه لا يفعل ذلك إلا قبسٌ سماوي، فتحٌ إلهي من يفعل ذلك، إنه ينتشلنا من الأشباح المتخفية في سدف الليل، إنه نورٌ يحوطنا، إنه النور الحقيقي فالتفت إليه، انظره الآن، ولكن لا! لا تنظر إليه بعيناك؛ لأنك ...

الأسد ملك الغابة

     إن الأسد في الغابة هو الملك، ولكن لماذا؟ فهناك من هم أقوى منه من الحيوانات كالنمر أو الدب، والقوة هي أهم عنصر في الغابة، فقانون الغابة يأمر أن البقاء للأقوى، ولكنه أصبح الملك لأنه يتمثل بصفات الملوك وأحوالهم، فهو لا يصطاد بل يجعل لبؤاته يفعلن ذلك، وما أن يتممن المهمة فهو يذهب لتناول وليمته منفردًا، وهكذا يفعل الملوك، وإنك ترى الأسد تهمه أرضه أكثر من بنيه وزوجاته، وهذا هو حال الملوك، وإنك ترى الأسد يستأسد على بقية الحيوانات، وهكذا هم الملوك، وإنك ترى الأسد قلقٌ من أشباله لأنه يعلم أنهم سيتكالبون عليه في شيخوخته، ويتقاتلون لاحقًا فيما بينهم لأجل حكم مملكة البرية الشاسعة، ومع ذلك فهو مضطرٌ لأنه لا يريد أن تفسد مملكته وتحول إلى الزوال أو تذهب لأسدٍ آخر، وهكذا هم الملوك!